الشريط

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

واقعة كربلاء.. وماتلاها



وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء
في إحدى المحطَّات الواقعة في الطريق إلى كربلاء قام الإمام الحسين (عليه السلام) خطيباً ، موضِّحاً لأصحابه المصير الذي ينتظرهم .
فقال الإمام (عليه السلام): ( إنَّه قدْ نَزَل بنا من الأمر ما قد تَرَون ، وإن الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت ، وأدبَر مَعروفُها ، واستمرَّت حدَّاء [ مقطوعة ] ، ولم تبقَ منها إلا صبابة كَصبابة الإناء ، وخَسيس عَيشٍ كالمَرْعى الوَبيل .
ألاَ تَرَون إلى الحقِّ لا يُعمَل به ، وإلى الباطلِ لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمنُ في لقاء ربِّه مُحقاً ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً.
وسار الركب نحو كربلاء ، ولم يقطع مسافة طويلة حتى اعترضه الجيش الأموي ، واضطرَّه للنزول .
فراح الإمام (عليه السلام) يسأل وكأنَّه يبحث عن أرض كربلاء ، فقال الإمام (عليه السلام): مَا اسْمُ هَذه الأرض؟
فقيل له : أرض الطف .        
فقال الإمام ( عليه السلام ): ( هَلْ لَهَا اسمٌ غير هذا ؟ ) .
قيل : اسمُها كربلاء .
فقال الإمام (عليه السلام): ( اللَّهُمَّ أعوذُ بك من الكَرْبِ والبَلاء ) .
ثم قال الإمام (عليه السلام): هَذا مَوضع كَربٍ وبَلاء ، انزلوا ، هَاهُنا مَحطُّ رِحالِنا ، ومَسفَكُ دِمائِنَا ، وهَاهُنا مَحلُّ قبورِنا ، بِهَذا حدَّثني جَدِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله).


ورود جيش عمر بن سعد أرض كربلاء
راحَ عُبيد الله بن زياد يبعث بقواته بِشتَّى صنوفها إلى أرض كربلاء ، وكان من أبرز الذين انتدبهم لتنفيذ الجريمة ، ومقاتلة الإمام الحسين (عليه السلام) هو عمر بن سعد .
ووعده إن هو قتل الإمام الحسين (عليه السلام) يُعطيهِ مُلكَ الري ، فاختار عمر بن سعد حُطَام الدنيا ، وركض وراء السراب .
فقاد أربعة آلاف مقاتل ، وعَسْكَرَ بالقربِ من مخيم الإمام الحسين (عليه السلام) ، وكان ذلك في الثالث من شهر محرم سنة (61 هـ) .
وقبل أن يدخل عمر بن سعد معركته مع الإمام الحسين (عليه السلام) ، اجتمع الإمام وحاوره .
فكتب إلى ابن زياد يقترحُ عليه فكرةً توصَّل إليها مع الإمام (عليه السلام) ، وهي أن يرفع الحصار عن الإمام الحسين (عليه السلام) ، ويفتح المجال له بالعودة لإيقاف نزيف الدم الذي بدأ يأخذ مجراه على أرض العراق .
وصل كتاب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد ، فأجاب على كتابه ، وأرسل الجواب بيد شمر بن ذي الجوشن ، نقتطف هنا أهم ما جاء به :
إنِّي لم أبعَثْكَ إلى الحسين لِتكفَّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لِتُمنيه السلامة والبقاء ، ولا لتعتذرَ عنه ، ولا لتكون له عندي شافعاً .
انظرْ فإن نزلَ الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا ، فابعث بهم إليَّ سلماً ، وأن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثِّل بهم ، فإنهم لذلك مستحقُّون ، وإن قُتِل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنه عَاقٌ ظَلوم .
وإنْ أبَيْتَ فاعتزل عملنا وجندنا ، وخَلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنَّا أمرناه بأمرنا ، والسلام .
فاستلم عُمر بن سعد الرسالة وقرأ ما فيها ، وأخذ يصارع نفسَهُ بين مواجهة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقتله ، التي يَحلُم عن طريقه الحصول على السلطة والسياسة والمكانة المرموقة عند رؤسائه وقادته ، وبين تحمُّل أوزار الجريمة .
فسَوَّلت له نفسه أن يُرجِّح السلطة والمال ، وقرَّر أن يقود المعركة ، وأن يفجِّر ينبوع الدم الزاكي ، بِمَعونة شمر بن ذي الجوشن .


منع الإمام الحسين ( عليه السلام ) من الماء
بعث عمر بن سعد خمسمِائة فارس بقيادة عمرو بن الحجاج ، فنزلوا على الشريعة ، وحالوا بين الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه  (رضوان الله عليهم) وبين الماء ، ومنعوهم أن يستسقوا منه قطرة ، وذلك في اليوم السابع من المُحرَّم عام (61 هـ) .
ولما اشتدَّ العطش بالإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه ، فأمَرَ أخاه العباس بن علي (عليهما السلام) ، فسار في عشرين رجلاً يحملون القرب ، وثلاثين فارساً ، فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلاً .
وكان أمامهم نافع بن هلال الجملي يحمل اللِّواء ، فقال عمرو بن الحجاج مَن الرجل ؟
قال : نافع .
قال : ما جاء بك ؟
قال : جِئْنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا [ منعتمونا ] عنه .
قال : فاشْرَب هنيئاً .
قال نافع : لا والله ، لا أشرب منه قطرة والحسين عطشان هو وأصحابه .
وروى سبط بن الجوزي : أنهم اقتتلوا على الماء ، ولم يمكنوهم من الوصول إليه ، وضيَّق القوم على الحسين (عليه السلام) ، حتى نال منه العطش ومن أصحابه .
فقال له برير بن خضير : يا ابن رسول الله ، أتأذن لي أن اخرج إلى القوم ، فأذن له ، فخرج إليهم فقال : يا معشر الناس ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه ، وسراجاً منيراً .
وهذا ماء الفرات ، تقع فيه خنازير السواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين ابن نبيِّه .
فقالوا : يا برير ، قد أكثرت الكلام ، فاكففْ ، والله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله .
فقال الإمام الحسين (عليه السلام): ( اقعُدْ يا بُرير ) .
ثم قام الإمام (عليه السلام) فنادى بأعلى صوته ، فقال : أنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن جَدِّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام (عليه السلام): أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن أمِّي فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله؟
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام (عليه السلام): أُنشِدكم الله ، هل تعلمونَ أنَّ أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام (عليه السلام): أُنشدكم الله ، هل تعلمون أن جَدَّتي خديجة بنت خُوَيلد ، أوَّل نساءِ هذه الأمة إسلاماً ؟
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام (عليه السلام): أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن سيِّدَ الشهداء حمزة عَمُّ أبي ؟.
قالوا : اللَّهم نعم .
فقال الإمام (عليه السلام): أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنا مُتقلِّدُه ؟
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام (عليه السلام) : (أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن هذه عمَامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله) أنا لابِسُها ؟
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام (عليه السلام): أنُشِدُكُم الله ، هل تعلمون أنَّ علياً كان أول القوم إسلاماً ، وأعلمُهُم علماً ، وأعظمُهم حِلماً ، وأنه وليُّ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة ؟
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام (عليه السلام): ( فِيمَ تَستحِلُّون دَمي وأبي الذائِدُ عن الحوض ، يذودُ عنه رِجالاً كَمَا يذاد البعير الصاد عن الماء ، ولواءُ الحمدِ في يَدِ أبي يوم القيامة ) .
قالوا : قد علمنا ذلك كُلّه ، ونحنُ غير تاركيك ، حتى تَذوقَ الموت عطشاً .
فلما خطب الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الخطبة ، وسمعت بناتُه وأخواتُه كلامَه بِكيْنَ ، وارتفعت أصواتَهُنَّ .
فوجَّهَ الإمام الحسين (عليه السلام) إليهِنَّ أخَاه العباس وعلياً ابنه (عليهما السلام) ، وقالَ لهما : ( أَسكِتَاهُنَّ فَلعمري لَيكثرنَّ بُكاؤهُنَّ ) .


شهادة الامام الحسين وأهل بيته وصحبه (عليهم السلام)
قَضى الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه (رضوان الله عليهم) ليلة العاشر من المحرَّم بالصلاة ، والدعاء ، وقراءة القرآن .
وكان لهم دويٌّ كدوي النحل ، وحركة واستعداد لِلِقَاء الله سبحانه ، يُصلِحُون سيوفَهم ورماحَهَم .
فباتوا تلك الليلة ضيوفاً في أحضان كربلاء ، وبات التاريخ أرَقاً ينتظر الحدث الكبير .
وفي صَباح اليومِ العاشر ، طلب الإمام الحسين (عليه السلام)- إتماماً للحُجَّة على أعدائه - من جيش يزيد ، أن ينصِتُوا إليه لكي يكلِّمُهم.
إلاَّ أنَّهم أبوا ذلك ، وعَلا ضَجيجهم ، وفي النهاية سَكَتوا ، فخطب فيهم معاتباً لهم على دعوتهم له ، وتخاذلهم عنه .
كما حدثهم (عليه السلام) بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين ، من ولاة بني أمية ، مِمَّا عُهد إليه من جَدِّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأبيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وهو ما تحقَّق فعلاً .
وخصَّ في ذلك عُمَر بن سعد ، الذي كان يزيد يمنِّيه بجعله والياً على الريّ وجرجان ، بأنَّ حلمه ذاك لن يتحقق ، وأنَّه سوف يُقتَل ، ويرفع رأسُه على الرمح .
ثم عاد الإمام الحسين (عليه السلام) مرةً أخرى على ظهر فرسه ، ووقف أمام الجيش الأموي ، وخاطبهم (عليه السلام) قائلاً : ( أمَّا بَعد ، فانسبونِي فانظُروا مَن أنَا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هَلْ يحلُّ لَكُم قتلي ، وانتهاكُ حُرمتي ؟ .
ألسْتُ ابن بنتِ نبيِّكم ، وابن وصيِّه وابن عمِّه ، وأوَّل المؤمنين بالله ، والمصدِّق لِرسولِه بما جاء من عند رَبِّه ؟
أوَ ليس حمزة سَيِّد الشهداء عَمّ أبي ؟ أو ليسَ جَعفر الشَّهيد الطيَّار ذو الجناحين عَمِّي ؟ أوَ لَمْ يَبلُغْكُم قول مُستفيض : أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قال لي ولأخي : هَذان سَيِّدا شَبَاب أهل الجنة) .
فَلَم يستجبْ له أحد ، ثمَّ خاطبهم (عليه السلام) قائلاً : (أمَا تَرونَ سَيفَ رَسولِ الله (صلى الله عليه وآله) ، ولاَمَةَ حَربِه ، وعمَامتَه عليَّ ) .
قالوا : نعم .
فقال (عليه السلام): لِمَ تُقاتِلونِي .
أجابوا : طَاعةً للأمير عُبَيد الله بن زياد .
واستحوَذَ الشيطان عَلى ابنِ سعد ، فوضع سَهمُه في كَبد قوسه ، ثم رَمَى مُخيَّم الإمام الحسين (عليه السلام)، وقال : اِشهدُوا أنِّي أوَّل من رمى .
فتبِعَه جنده يُمطِرون آل الرسول (صلى الله عليه وآله) بوابِلِ من السهام .
فعظُمَ الموقف على الإمام الحسين (عليه السلام) ، ثم خاطب أصحابه قائلاً: قُومُوا رَحِمكم الله إلى الموتِ الَّذي لا بُدَّ منه ، فإن هذه السِّهام رُسل القوم إليكم .
فلبوا (رضوان الله عليهم) النداء ، وانطلقوا كالأسُود يُحارِبون العَدو ، فاستمرت رَحَى الحرب تَدورُ في ميدان كربلاء .
وبدأ أصحاب الحسين (عليه السلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر ، وقد أرهقوا جيش العدو ، وأثخنوه بالجراح .
فَتَصايَح رِجالُ عُمرِ بن سعد : لو استمرَّت الحربُ بَيننا ، لأتوا على آخرنا ، لِنَهجم عليهم مَرَّة واحدة ، ولِنرشُفهُم بالنِبال والحجارة .
واستمرَّ الهجوم والزَحف نحو من بقي مع الإمام الحسين (عليه السلام) ، وأحاطوا بهم من جهات مُتعدِّدة ، فتعالَتْ أصواتُ ابن سعد ونداءاته إلى جيشه ، وقد دخل المعسكرُ يقتل وينهب ، ويقول : اِحرقوا الخيامَ .
فضجَّت النساء ، وتصارَخَ الأطفال ، وعَلا الضجيج ، وراحت ألسِنة النار تلتهِم المخيَّم ، وسُكَّانه يفرُّون فزعين مرعوبين .
فلم يهدأ سَعير المعركة ، وراح مَن بقي من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته ، يستشهدون الواحد تلو الآخر .
فاستشهدَ وَلدُه علي الأكبر ، وأخوته ، وأبناء أخيه ، وابن أخته ، وآل عقيل ، وآل علي (عليه السلام) ، مجزَّرينَ كالأضاحي ، وهم يَتَناثرون في أرضِ المعركة .
وكذا بدأ شَلاَّل الدم ينحدر على أرض كربلاء ، وصَيحاتُ العطش والرُعب تتعالَى من حناجر النِساء والأطفال .
فركب الإمام الحسين (عليه السلام) جوادَه ، يتقدَّمُه أخوه العباس بن علي (عليه السلام) ، وتوجَّه نحو نَهْر الفرات ، ليحمل الماء إلى العيال ، فحالَتْ حشود العدو دونه ، فأصبح هو في جانب وأخيه في جانب آخر .
وكانَتْ للبطل الشجاع أبي الفضل العباس (عليه السلام) صَولَةً ومعركةً حامية ، طارت فيها رؤوس ، وتساقَطَتْ فرسان ، وهو يصول ويجول في ميدان الجهاد ، بعيداً عَن أخيه ، حتى خرَّ صريعاً سابحاً بدم الشهادة .
وتعلَّق قلب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بِمخَيَّمه ، وما خلَّفت النار والسُيوف بأهله وحَرَمه .
فراح (عليه السلام) ينادي ، وقد طوَّقته قوات الأعداء وحالت بينه وبينهم ، فصاح (عليه السلام) بهم: أنَا الَّذي أقاتِلُكم ، والنِّساء لَيسَ عَليهنَّ جُناح ، فامْنَعوا عُتاتكم عن التعرُّض لحَرَمي ما دُمتُ حَيّاً .
إلاَّ أنَّهم استمرّوا في هُجومِهِم على المخيَّم ، ولم يعبئوا لكلامه (عليه السلام).
فاستمرَّ الهُجوم عنيفاً ، والإمام (عليه السلام) منهمِكاً في قتال أعدائه ، إلى أن سَدَّد له أحد الأجلاف سَهماً ، واستقرَّ في نحره الشريف ، ثمَّ راحَت السُيوف والرِماح تنزل عليه كالمطر الغزير .
فلم يستطع (عليه السلام) مقاوَمَة الألم والنَزف ، فوقع على الأرض ، ولم يكفُّوا عنه ، لأنَّ روح الحِقْد والوحشيَّة التي امتلأَتْ بها جوانحهم لم تسمح بذلك .
بلْ راح المَلعُون شمر بن ذي الجوشن ، يحمل سيفه ليقطع غُصْناً من شجرة النبوَّة ، وليُثكِل الزهراء (عليه السلام) بأعزِّ أبنائها ، ففصلَ الرأسُ الشريف عن الجسد ، لِيحملَهُ هديَّة للطاغية .
ذلك الرأسُ الَّذي طَالَما سَجَد لله ، وحمل اللِّسان الذي مَا فتئ يُردّد ذكر الله ، وينادي (عليه السلام): (لا أعطِيكُم بِيَدي إِعطَاء الذَّليل ، ولا أقرُّ إِقرَار العبيد) .
الرأس الذي حَمَل العِزَّ والإباء ، ورفض أن ينحني للعتاة أو يطأطأ جَبهته للظالمين .
وهكذا وقعت الجريمة البشعة ، جريمة يوم العاشر من المحرم ، في سنة (61 هـ) .


خروج سبايا الإمام الحسين ( عليه السلام ) من كربلاء إلى الكوفة
في يوم الحادي عشر من المحرّم عام 61 هـ ، نادى عمر بن سعد بالرحيل ، والتوجّه إلى الكوفة ، فخرجت سبايا الإمام الحسين (عليه السلام) من النساء والصبيان ، ومعهم الإمام زين العابدين (عليه السلام) ـ وكان يومها مريضاً ، مرضاً يقرب من الموت ـ مع عمر بن سعد وجيشه ، من كربلاء إلى الكوفة ، تاركين جثث الشهداء على رمضاء كربلاء ، تصهرها أشعة الشمس .


وصول سبايا الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة
تحرَّك موكب سبايا أهل البيت (عليهم السلام) في الحادي عَشر من المحرم ، وهو يقطع الصحاري ، حامِلاً الذكريات الموحِشة والمؤلمة للَيلَة الفِراق والوحشة ، التي قضَوها على مَقربة من مَصارع الشهداء .
فدخَلَ الركب الكوفةَ في اليوم الثاني عشر من المحرَّم ، سنة (61 هـ) ، ففزع أهلُ الكوفة ، وخرَجوا إلى الشوارع ، بين مُتسائِلٍ لا يدري لِمَن السبايا ، وبين عَارفٍ يُكفْكِف أدمعاً ويُضمِر نَدَماً .
ثمَّ اتَّجه موكبُ السبايا نحو قَصْر الإمارة ، مُخترقاً جموع أهل الكوفة ، وهُم يبكون لِما حَلَّ بالبيت النبوي الكريم .
ولمَّا اكتسبت أيديهم ، وخَدَعتْ وعودُهم سبط النبي (صلى الله عليه وآله) ، وإمام المسلمين الحسين (عليه السلام) ، وهَاهُم يرَوْن أهله ونساءه أسَارَى .
وهاهو رأسُ السبط الشهيد يحلِّق في سَماء الكوفة على رأسِ رمح طويل ، وقد دعوه ليكون قائداً للأمَّة الإسلامية ، وهادياً لها نحو الرشاد .
فحدَّقت زينب (عليها السلام) بالجموع المحتشدة ، ومَرارة فقدان أخيها تملأ فَمها ، وذُلّ الأَسر يحيطُ بموكِبها ، فنظرت (عليها السلام) إلى أهل الكوفة نظرة غَضَبٍ واحتقار ، وخَطَبت بهم خطبة مُقرعة ومؤنِّبة .
وأدخِلَ رأس الإمام الحسين (عليه السلام) إلى القصر ، ووُضع بين يدي ابن زياد ، فأخذ يضرب الرأسُ الشريف بقضيب كان في يده ، وعليه علامات الفرح والسرور .
ثم أُدخل النساءُ والأطفال ، ومعهم الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، فانبرى ابن زياد مخاطباً زينب (عليها السلام) وشامتاً بها : الحمدُ لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأكذب أحدوثتكم .
فردَّتْ (عليها السلام) عليه بلسانِ المرأة الواثقة بأهدافها: الحمْدُ لله الذي أكرَمَنا بنبيِّه محمدٍ (صلى الله عليه وآله) ، وطهَّرَنا مِن الرِّجس تطهيراً ، إنما يَفتضحُ الفاسِق ، ويكذبُ الفاجِر ، وهو غَيرُنا.
فقال ابن زياد : كيف رأيت فِعلَ الله بأهلِ بيتك ؟
فقالت (عليها السلام): كتبَ اللهُ عليهم القتل ، فَبَرَزوا إلى مَضاجِعِهم ، وسيجمع اللهُ بَينك وبَينَهُم ، فتحاجُّون إليه ، وتَخْتصِمون عِنده .
ثم جاء الدور بعد ذلك للإمام زين العابدين (عليه السلام) ، ليقف أمام عبيد الله بن زياد .
فسأله : مَن أنت ؟
فأجاب الإمام (عليه السلام): ( أنَا علي بن الحسين ) .
فقال : ألمْ يقتلُ الله علي بن الحسين ؟
فقال الإمام (عليه السلام): ( كَانَ لي أخٌ يُسمَّى علياً قَتَله الناس ) .
فقال ابن زياد : بل قتله الله .
فقال الإمام (عليه السلام): ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) الزمر : 42 .
فغضب ابن زياد لِرَد الإمام (عليه السلام) ، فنادى جلاوزته : اِضربوا عنقه .
فتعلَّقت عَمَّته زينب (عليها السلام) به وصاحت : يَا بْن زياد ، حَسْبك مِن دِمائِنا ، والله لا أفارِقُه ، فإن قَتلتَهُ فاقتلني معه.
فتراجع عن ذلك .
ولم يقف حِقد ابن زياد وقَساوته ، وأسلوبه الوحشي إلى حَد ، بل راح يطوف في اليوم الثاني برأس الحسين ( عليه السلام ) في شوارع الكوفة ، يُرهِب أهلَها ، ويتحدَّى روح المعارضة والمقاومة فيها .




دفن الإمام الحسين (عليه السلام) وباقي أصحابه وأهل بيته

بعد أن أثخن الإمام المظلوم بالجراح وأخذ يجود بنفسه وتسيل دماؤه، وقد اغبرّ الفضاء، وسالت الدماء، وهامت على وجوهها النساء، وانتشرت أجساد الشهداء، على رمضاء كربلاء.
وصاح الشمر بأصحابه: ما تنتظرون بالرجل؟
فحملوا عليه من كل جانب.
وخرّ صريعاً مغشيّاً عليه، فلما أفاق من غشيته وثب ليقوم للقتال فلم يقدر، فبكى (عليه السلام) بكاءً عالياً ونادى: (واجدّاه، وا محمداه، وا أبتاه، وا علياه. وقال أبو مخنف: وبقي الحسين (عليه السلام) مكبوباً على الأرض ملطّخاً بدمه ثلاث ساعات من النّهار.

وكانت معركة الطف قد وقعت بالقرب من ديار قبيلة بني أسد، فقد خرج رجالها يتفحّصون القتلى بعد رحيل جيش عمر بن سعد، حيث تناثرت جثث الشهداء هنا وهناك مطرّحة في مصارعها ثلاثة أيام تنتابها الوحوش، وتصهرها حرارة شمس الصيف اللاهية.
ثم خرج قوم من بني أسد بحثّ من نسائهم، إذ كانوا يتوجسون خيفة من أتباع السفاك ابن زياد ودفنوا الأجساد الطاهرة إلاّجسد الإمام الحسين (عليه السلام)، إذمع تشخصه بنورانيته الفائقة إلاّ أنهم لم يستطيعوا حمله ببرهان من الله سبحانه، حتى جاء الإمام السجاد (عليه السلام) متنكراً فاستدعاهم ودفنه بنفسه، وهو يبكي (عليه السلام) ويقول: (طوبي لأرض تضمنت جسدك الشريف، أما الدنيا فبعدك مظلمة، والآخرة فبنور وجهك مشرقة. أما الحزن فسرمد، والليل فمسهد، حتى يختار الله لي دارك التي أنت مقيم بها. فعليك منّي السلام بابن رسول الله ورحمة الله وبركاته).
و خط قبره الشريف بأنامله وكتب:
هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي قتلوه عطشاناً غريباً.

ثم قال السجاد (عليه السلام) لبني أسد: (اُنظروا هل بقي أحد)؟

قالوا: نعم، يا أخا العرب، قد بقي بطل مطروح على المسنّاة، فقال(عليه السلام): (امضوا إليه)، فلما رآه انكبّ عليه يقبّله ويبكي ويقول: (على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، فعليك منّي السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته).
ثم طلب إلى بني أسد بشق ضريح له (عليه السلام) ثم دفنه بنفسه الشريفة، ثم عاد الإمام السجاد (عليه السلام) إلى الكوفة بعد دفن الأجساد الطاهرة.

وهكذا أصبح مرقده الشريف فيما بعد قبلة للثوار، ومناراً للصالحين، وقيل: إن الإمام ابنه علي بن الحسين هو الذي دفنه (عليه السلام) في هذا اليوم بعد أن جاء متنكراً.

واقعة الحرة
على أثر الأخبار التي وردت إلى المدينة المنوّرة ، والتي تتحدّث عن استهانة يزيد بالإسلام والمسلمين ، ذهب وفد من أهل المدينة برئاسة عبد الله بن حنظلة الأنصاري ـ كان شريفاً فاضلاً عابداً ، مثل أبيه الصحابي الجليل غسيل الملائكة ـ إلى مقر الخلافة في الشام ، وقابلوا يزيد واطلعوا على أعماله ، ورأوا بأعينهم ما يقوم به من تهتُك وانتهاك لحرمة الإسلام .
عاد الوفد إلى المدينة المنوّرة ، ونقلوا لأهلها ما شهدوه في الشام ، وأخذوا يحثّون الناس على الثورة والتمرّد ، فوقف رئيسهم عبد الله بن حنظلة أمام أهل المدينة وخاطبهم : والله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء ، إنّه رجل ينكح أمّهات الأولاد ، والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة .
اجتمع الثوّار وقرّروا محاصرة والي المدينة الأموي ، وكذلك دور آل أمية الذين استنجدوا بالإمام زين العابدين (عليه السلام) ، ووضعوا نساءهم وأطفالهم في بيته لحمايتهم من الأذى ، ففتح الإمام لهم بيته وآواهم .
وصلت أخبار الثورة إلى مسامع يزيد ، فأرسل قائداً اسمه : مسلم بن عقبة لإخماد الثورة ، وأوصاه بما يأتي : ادعُ القوم ثلاثاً ، فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم ، فإذا أظهرت عليهم فأبحها ـ أي مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ ثلاثاً ، فما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند .
وصل الجيش إلى المدينة المنوّرة في الثالث عشر من المحرم سنة 63 هـ ، وكان ذلك بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بسنتين .
ودار قتال عنيف بين الثوّار المدافعين عن الإسلام ، وبين الجيش الأموي ، استشهد خلاله أغلب المدافعين ، بمن فيهم القائد عبد الله بن حنظلة ، وطبقاً لأوامر يزيد أمر مسلم بن عقبة جنوده باستباحة المدينة المنوّرة ، فهجموا على بيوت الناس الآمنين ، وقاموا بقتل الأطفال والنساء والشيوخ ، وأسروا آخرين .
وروى المؤرّخون في الفضائح التي قام بها جيش مسلم بن عقبة الشيء الكثير ، منها : أنّ جنوده وقعوا على النساء ، حتّى قيل أنّه حملت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج شرعي .
وكان عدد مَن قُتل من المهاجرين والأنصار سبعمائة من الوجهاء ، ومن غيرهم عشرة آلاف .
وحدث مرّة أن دخلت مجموعة من الجيش الشامي أحد البيوت ، فلمّا لم يجدوا فيه إلاّ امرأة وطفلاً ، سألوها إن كان في البيت شيء ينهبونه ، فقالت : إنّه ليس لديها مال ، فأخذوا طفلها وضربوا رأسه بالحائط فقتلوه ، بعد أن انتثر دماغه من أثر الضرب بالحائط .
ثمّ نُصب كرسي لمسلم بن عقبة ، وأتوا بالأسرى ، فكان يطلب إلى كل واحد منهم أن يبايع ويقول : إنّني عبد مملوك ليزيد بن معاوية ، يتحكّم فيّ وفي مالي وفي أهلي ما يشاء ، وكل مَن امتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد ، وأصرّ على القول أنّه عبد الله تعالى قام بقتله ؛ إلاّ أنّه احترم الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، عندما جيء به إليه ، بناءً على وصية كان قد أوصاه بها يزيد بن معاوية الذي يبدو أنّه لم يرد أن يجدّد الوقائع الأليمة ، التي ظلت في أذهان المسلمين عمّا أوقعه بآل البيت (عليه السلام)في كربلاء من القتل والأسر .
خرج جيش مسلم بن عقبة من المدينة المنوّرة محمّل بالغنائم ، بعد أن اعتدى على أعراض النساء ، متّجهاً نحو مكّة ، ضارباً عرض الجدار وصية النبي (صلى الله عليه وآله) بمدينته الحبيبة ، حيث قال: ( مَن أخاف أهل المدينة أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) .


خروج سبايا الإمام الحسين ( عليه السلام ) من الكوفة إلى الشام
تقدَّم رأسُ الحسين (عليه السلام) رؤوس الكوكبة التي خلَّفت أجسادها في صحراء الطف ، وراحت القافلة تخترق الصحاري متوجهة إلى دمشق .
وسارت خلف الرأس الشريف زينب (عليها السلام) بطلة كربلاء ، وقد تسلَّمت مَهامَّ الثورة الحسينية ضِدَّ الطُغاة ، وهي مِهمَّة الجهاد بالكلمة لا بالسيف .
فالتحق ركب النساء والأطفال برفقة الإمام السجاد (عليه السلام) ، الذي وضعت بِيَدِه السلاسل ، وجُمِعت إلى عنقه ، وحملوا جميعاً على اقتاب الإبل التي كانت بغير وطاء ، وكان ذلك في التاسع عشر من شهر المحرم ، في سنة (61 هـ) .
فالتحقوا بموكب الرؤوس الذي سَبَقهم في المسير ، وراحوا يسيرون سواءً إلى جَنب رأس الحسين (عليه السلام) نحو الشام ، بناءً على الأوامر التي صدرت من يزيد بن معاوية إلى ابن زياد .
حَيثُ كَتب إليه رسالة جاء فيها : سَرِّح الأُسَارى إليَّ .
لأنَّه هذه المرة أراد أن ينُفِّس عن حِقْده ، برؤية عائلة رسول الله (صلى الله عليه وآله)  تقِفُ أمامه ، وهي في القيود والسلاسل .


شهادة الإمام زين االعابدين ( عليه السلام )
الإمام (عليه السلام) والوليد بن عبد الملك :
تأزَّم الوضع بعد موت عبد الملك بن مروان ، واستلام الوليد ابنه زمام الأمور ، حيث بقي الإمام السجاد (عليه السلام) مواصلاً لخطواته الإصلاحية بين صفوف الأمة الإسلامية ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر .
مما أقضَّ مضاجع قادة الحكم الأموي ، بسبب عدم تَمَكُّنهم من الاستمرار في أهدافهم التحريفية ، للرسالة الإلهية .
وقد كان الوليد من أحقد الناس على الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، لأنه كان يرى أنه لا يتم له الملك والسلطان مع وجود الإمام (عليه السلام).
الذي كان يتمتَّع بشعبية كبيرة ، حتى تحدث الناس بإعجاب وإكبار عن علمه ، وفقهه ، وعبادته .
وعجّت الأندية بالتحدُّث عن صبره وسائر ملكاته (عليه السلام) ، واحتلَّ مكاناً كبيراً في قلوب الناس وعواطفهم ، فكان السعيد من يحظى برؤيته ، ويتشرَّف بمقابلته ، والاستماع إلى حديثه .
وقد شقَّ على الأمويين عامة هذا الموقع المتميّز للإمام (عليه السلام) ، وأقضَّ مضاجعهم .
ورُوِي عن الوليد أنَّه قال : لا راحة لي وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا ، فأجمع رأيه على اغتيال الإمام (عليه السلام) ، والتخلص منه .
شهادته (عليه السلام):
أرسل الوليد سمّاً قاتلاً من الشام إلى عامله على المدينة ، وأمَرَه أن يدسَّه (عليه السلام)، ونفَّذ عامله ذلك .
فسَمَتْ روح الإمام (عليه السلام) العظيمة إلى خالقها ، بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها ، وعباداتها ، وجهادها ، وتجرُّدِها من الهوى .
وكان ذلك في ( 25 ) محرم ، من سنة ( 95 هـ ) ، وعلى رواية أخرى أنه شهادته ( عليه السلام ) كانت في ( 12 ) محرم ، من سنة ( 95 هـ ) .
دفن الإمام ( عليه السلام ) :
تولَّى الإمام محمد الباقر (عليه السلام) بتجهيز جثمان أبيه (عليه السلام) ، وبعد تشييع حافل لم تشهد المدينة نظيراً له ، جِيء بجثمانه الطاهر إلى مقبرة البقيع في المدينة المنورة .
فحفروا قبراً بجوار قبر عَمِّه الزكي الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ، سيد شباب أهل الجنة .
وأنزل الإمام الباقر (عليه السلام) جثمان أبيه زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام)، فواراه في مَقَرِّه الأخير .
فسلام عليه وعلى آبائه وأبنائه أجمعين .

Translate

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة