دعاة على أبواب جهنم
ان من الملاحظ في مجال السياسة والاجتماع أن الامة العربية اصبحت تستهلك افكارا بالية اكل عليها الدهر وشرب، و أضحى العقل لديها مكبلا لا يكاد يتسلل اليه بصيص من نور الابداع. بل انسدت الافاق المستقبلية أمامها وكأن عليها من الحديد قطرا لا يستطيع المرء لها دفعا ولا هدما. وهذا ما ارهق شعوبها بفلسفات للحياة بالية وفقه جامد لا حياة فيه ولا دبيب مما اطفأ روح الالهام على مستوى كل طبقاتها حتى امست تنوء بأحمال مسيطرة على حياة الناس سادّة أمامهم كل السبل حتى ألقت على الأنظار غشاوة ظاهرها فيه رحمة وباطنها من قبله العذاب.
الامة وهاجس الخوف من الفتنة
لقد كانت روح المسلمين الاوائل وثابة الى الاصلاح تواقة للحرية ولكن ما لحق الامة بعد ذلك مما زرعه الأمويون من جرائم في القرن الهجري الاول ضد كل معارضة سياسية جعل التشاؤم يسيطر على النفوس واصبح خوف الفتنة اصل في الثقافة الاسلامية وهو ما جعل أي جهد للإصلاح السياسي يبوء مسبقا بالفشل.
و بظهور المعارضات المسلحة مثل التي قادتها الخوارج والتي استباحت المجتمعات الاسلامية باسم مقاومة ظلم الطغاة، ازداد التشاؤم ورسخت بذلك ثقافة الإستبداد بداعي تجنب الفتنة وفهماً خاطئً لقوله تعالى: الفتنة اشد من القتل
وهكذا وقعت الامة كلها في هاجس "الخوف من الفتنة" فاصبح عقلها مشلولا، واتسعت دوائر الخوف لديها حتى صار مانعا جماعيا ونفسيا تستبطنه النفوس مهما ساءت الظروف. وزاد الطين بلة أن تصدى فقهاء السلطان لترسيخ الخوف من الفتنة على وحدة وهمية لأوطان مقطعة الأوصال ومن ورائها على وحدة لأمة لا وجود لها في عالم الواقع بسبب نفس هؤلاء الحكام الذين يحرقون الاخضر واليابس من اجل المحافظة على كراسيهم. وهذه الفئة من علماء السلطة لا تقيم اعتبارا للشرعية فحسب بل تضحي بالحرية وتؤسس للقهر بديلا عنها بمساندتها للرأي الظالم والمجحف و بئس التابع والمتبوع. و هم يتناسون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالوقوف أمام الظلم ولو بجهاد الكلمه ؛ ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده إشارة الى حكام بني أمية ومن سار على نهجهم.. "
الاستبداد هو اشنع فتنة
ان اخطر واشنع فتنة على كل المستويات هي فتنة الاستبداد السياسي والذي تلعب فيه وعاظ السلاطين والمتزلفين للبلاط دوراً كبيراً بل ودوراً رئيسياً , ولنا في تاريخنا القديم والحديث ما يكفينا من عبر لمن يريد ان يعتبر. وما ثورات اهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وثورة الإمام الحسين عليه السلام , الا دليلا قاطعا على على وجب رد الظلم وجهاده ولو بكلمة بالمصطلح المعاصر. يروي ابن عساكر في تاريخه ان الحسين بن علي عليهما السلام إنه كتب الى معاوية بن ابي سفيان يقول له : "وما أظن لي عند الله عذرا في ترك جهادك، ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة"
و يا ليت علماء السلطان لم يضفوا شرعية فقهية على الإستبداد ، ولم يسوغوا للظالم ممبراته الشرعية للتسلط والقهر ولم يفرضوا على الناس الطاعة ونصرة المستبدين والله يقول في الحديث القدسي: "يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا..." . لقد فعلوا كل ذلك واهملوا واجبهم في الجراءة على مطالبة الظالمين بكف الظلم عن الناس والعدل بين الرعية وتقوى الله : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر..." .
هناك عمى سياسي وتاريخي أصاب فقهاء السلطان بمكرهم فتعاموا عن حقيقة ان دولة الاسلام بحكمها الرّاشد في زمن الرسول الأعظم وآل بيته عليهم السلام أجمعين سواء أكان ذلك في المرحلة النبوية أو إبان ولاية الأئمة الطاهرين من بعده جاءت لترفع الظلم عن الشعوب وتحررهم من نير العبودية فلخص ذلك ربعي بن عامر عندما قال لكسرى : " انما جئنا لنخرج العباد من عبودية العباد الى عبادة رب العباد..." . و عندما انقلب الحكم الرّاشد الى حكم عضوض بدءا من بني امية ومرورا ببني العباس ومن بعدهم، تصدى لمقاومته خيرة الصحابة وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل ذلك. ولقد تجسدت تلك المقاومة في ثورة الحسين بن علي عليه السلام ، وثورة أهل بيته ضد يزيد أبن معاوية.
فقهاء البلاط و تحريف تاريخ الثورات
لكن فقهاء السلطان الذين كتبوا تاريخ أمتنا السياسي اثناء سيطرة الديكتاتورية رصدوا تلك الثورات المباركة من خلال قاعات القصور الفخمة وعن طريق هواجس الخوف من الفتنة، فكانت النتيجة ان زَوّروا الشرعية الأخلاقية بناء على عدم وصولها الى الهدف المنشود في التغيير، والتمسوا النصوص تلو النصوص لبناء خلفية تراثية وتاريخية مشوهة تجعل من الخضوع للظالم تقوى والاستسلام للديكتاتور بل طاعته عبادة يؤجر عليها. واستعملوا لذلك ترسانة من النصوص المستلّة من هنا وهناك والتي لا يربط بينها وبين اصول الاسلام العامة التي تحث على مكافحة الظلم والنضال من اجل الحق دين ولا عقل كما في : "...اسمع واطع ولو ضرب ظهرك واخذ مالك ما لم يكن معصية... " . - أقول : وهل هناك معصية اعظم من الظلم؟
وهنا يظهر تعمد الخلط بين مسالتين مختلفتين كل الاختلاف وهما التكييف الفقهي والتوصيف الاخلاقي، حيث استغل اولئك الفقهاء فشل معظم تلك الثورات في صدر الاسلام في الوصول الى اعادة الحكم الرّاشد وطعنوا في سلامة نيات اصحابها وشرعية فعلهم، وهم بذلك التصرف يزورون الحقائق و يلوون اعناق النصوص لتوافق مبتغاهم وارضاء سادتهم الذين استمرأوا الظلم حتى جعلوا فقهاء بلاطهم يكيفون الفتاوى لتبرير الاستبداد رغم النصوص الصريحة من الكتاب والسنة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لكعب بن عجرة: أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنّون بسنتي؛ فمن صدقهم بكذبهم وأعانهـم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون عليَّ حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون عليَّ حوضي" .
ولقد خلص هؤلاء الفقهاء السلطويون الى نتيجة مفادها ان الثائرين فتّانون ومخالفون للجماعة التي تمثلها الغالبية العظمى، اذن فهم مذنبون ويستحقون العقاب ولو كانوا اصحاب نيات طيبة كريحانتي رسول الله صلى الله عليهم وسلم , وبالتالي لبّسوا على الناس وافهموهم ان الخطأ خطيئة و أن الحكم على الأفعال بما تحققه في الواقع لا بما تنتويه من خير حتى ولو لم تحقق شيئا لقوله صلى الله عليه وسلم : "إنما الاعمال بالنيات..." .
وليس كل من اخطأ الحسابات الاستراتيجية العسكرية والسياسية ممن يطلب حقه وحق امته وشعبه على خطيئة وذنب بل شرعا يبقى صاحب حق مهما كانت النتائج. و بخاصة أن النتائج الدنيوية لمقاومة الظلم ليست مضمونة على الدوام، و تلك الأيام نداولها بين الناس. ولو أخذت الأحكام الشرعية في عين الاعتبار النتائج على الأرض فقط لاعتبرنا غزوتي أحد ومؤتة من اكبر الآثام التي ارتكبها الصحابة، وما قال بذلك مسلم فضلا عن عالم وفقيه حتى من علماء البلاط.
ولم يأت نص شرعي واحد يضمن النصر الدنيوي لمن يقاوم ويدافع عن حقه بطريقة اتوماتيكية ولكن المضمون هو نيل الحسنى سواء في الدنيا ام في الاخرة. اذن فالمعيار الدقيق ان نقول المهم ان تكون مقاصد الثائرين هي الحق والعدل والحرية بالتزام الشرع فحسب. فالله تعالى يقول: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين" .
فاذا كان سيدي ومولاي الحسين بن علي عليهما السلام قد اخطأ بالمبالغة في تقدير قوة أنصاره في العراق، وعدم إدراكه للمعادلات السياسية والاستراتيجيات العسكرية القائمة في عصر بني امية. بل لم ينتبه للتغييرات الأخلاقية والنفسية التي دخلت على الناس عند امتداد الفتوح وتطور الحضارة وتشعب العمران، مما جعل الكثير من الناس يتبع نظرية المداراة والامساك بالعصا من الوسط كي يكون ظاهرا مع المظلوم وباطنا مع الظالم.
فان أهل المدينة المنورة قد اساؤوا التقدير السياسي وجانبوا الصواب في الاستراتيجية العسكرية عند ثورتهم على يزيد بن معاوية، ولم يأبهوا الى الاختلال الكبير في موازين القوى ما جعل الثورة تنتهي بفاجعة "الحَرَّة" التي قضى فيها الكثير من الابرياء. و هكذا اتخذها الطاغية يزيد ذريعة ليعيث فسادا في مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويرتكب جريمة حرب بالمفهوم المعاصر.
وكان من الأسباب الرئيسية لتلك الأخطاء أن أهل المدينة والحجاز اعتادوا على جيوش المتطوعين ممن يبتغون وجه الله تعالى ولا يريدون جزاء ولا شكورا الا احدى الحسنيين النصر او الشهادة. كان هذا ممكنا في صدر الاسلام لوضوح العدو وعدم التباس الحق بالباطل. ولكن لم يعد هذا نافعا مع تحول جيوش الشام الى جيوش نظامية محترفة تقاتل بمهنية عالية وحتى ارتزاق وليس دائما لوجه الله تعالى. والسبب في ذلك ان معاوية وهو من دهاة العرب وصاحب حيلة سياسية وخبرة عسكرية قد ورث كل النظام الاداري والعسكري للدولة البيزنطية واستعمله ضد خصومه من الثائرين من آل البيت عليهم السلام وغيرهم.
ثم إن الفتنة قد ضربت اطنابها بعد أن اختلطت الرايات مع معركتي الجمل وصِفِّين ولم يعد بإمكان
وعاظ السلاطين وثلةً ممن أدعى الدين أن يقول بأن معاوية أبن أبي سفيان كان مخطاً وكان يقود الفئة الباغية ولكنهم حرفوا الأمور عن مسارها الصحيح حتى قالوا معاوية في الجنه وأمير المؤمنين علي أبن طالب عليه السلام في الجنة أيضاً وتلك مفارقه عجيبة غريبة أخترعتها بعض من وعاظ السلاطين وعلماء البلاط الأموي وهذا دليل على تزويرهم التاريخي للحقائق وقلب الأمور على عامة الناس والتدليس كل ذلك فقط ليصيبهم بعضاً من دريهمات الأمويين وكما هو الحال عليه في هذه الأيام
ثورة الشعوب العربية اليوم
والتاريخ يعيد نفسه بكل تفاصيله، الثورات اليوم في جميع البلدان ضد الظلم السياسي والديكتاتورية مستخدما ما في وسعه من وسائل شرعية سواء وصل الى إزاحة الظلم وتحرير الأمة من الاستبداد أم مات في سبيل.
وهذه المعادلة الاستراتيجية التي تميز بين الخطأ والخطيئة في تصرفات الثائرين هي التي يفتقر اليها الحَرفيون من فقهائنا اليوم وكذلك من فقهاء البلاط الذين هم اسرى مشاهد تاريخية جعلوها مصادر لفتاواهم الفقهية التي تهدم الاسلام من الاساس وتناقض مبادئه في العدل والحرية و حقوق الانسان.
و قال ابن حجر في تهذيبه ما معناه: إن مذهب السيف مذهب للسلف قديم، ولكن استقر الأمر على ترك ذلك مخافة الفتنة. و المقصود بمذهب السيف لدى السلف هو مقاتلة الحاكم الظالم الذي تمثله الديكتاتوريات عبر عالمنا في ايامنا هذه. فيجب على كل من يدعون انهم سلفيون ومن اتباع السلف أن يأخذوا بمذهب السلف الصحيح، ويناضلوا لدفع الظلم الديكتاتوري عن أمتهم، وعليهم ان يحققوا المسائل الفقهية قبل استجلابها فما كان منها موافقا اصول الاسلام العامة ونصوص القران اخذوا به وما كان غير ذلك رموا به عرض الحائط. و ليحذروا اقوال الفقهاء المتأخرين فقد تركوا الكثير من أصول الاسلام ومبادئ الدين من أجل موافقة السلطان او خوفا من بطشه. و لنا جميعا في الرسول وآل بيته عليهم السلام الذين حملوا السيف ضد الاستبداد مثالا يحتذى لانهم أفقه الناس في الإسلام من أي فقيه دعي يأتي بعدهم. وان هؤلاء الثوار الذين قاموا انما ثاروا لانهم ملوا حياة العبيد فلا فقه ولا فلسفة ولا سياسة سوف توقفهم عن تحقيق ما دونه حبل الوتين ومهج القلوب.
و لقد جاء قول النبي في كتوب القوم إنه صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء عند الله حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" .
و نحن نشهد اليوم ثورات عارمة في وجه الديكتاتوريات الضاربة الجذور في اعماق جميع الأوطان ومن شتى البقاع في العالم وهؤلاء الثوار يبرهنون لنا على ان امهاتهم لا تزال قادرة على انجاب الأحرار الذين يستشهدون في سبيل الاوطان والحق والعدل والحرية والنصر ات وما ذلك على الله بعزيز
والله أعلى وأعلم
وأن آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين ومن والاهم وسار على نهجهم الى يوم الدين